
خطاب الرئيس ترامب أمام الجمعية العامة، استخفاف بالمنظمة والعالم ...!

د عبد الرحيم محمود جاموس
أمد/ خطاب استعلائي بلا احترام ..
وقف الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، المنبر الأوسع الذي يفترض أن يجسد ضمير الإنسانية، فإذا بخطابه يتحول إلى عرضٍ متعالٍ يفتقر إلى الاحترام المتبادل، ويعكس استهتارًا بالمؤسسة الدولية وبأعضائها ومواقفهم، بل وحتى بسمعة الولايات المتحدة نفسها. لقد بدا ترامب وكأنه يخاطب جمهورًا داخليًا انتخابيًا أكثر من كونه يُخاطب شعوب العالم وقادته.
قطيعة مع تقاليد الدبلوماسية ..
منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، حرصت الإدارات الأمريكية المتعاقبة ــ رغم تباين سياساتها ــ على منح المنظمة الدولية قدرًا من الاحترام الشكلي، إدراكًا لدورها كإطار للتعددية ولشرعية القرارات الدولية. لكن خطاب ترامب جاء خاليًا من هذا الحد الأدنى، حيث هيمن عليه الطابع الاستعلائي والاستهانة بالآخرين، في مشهد يثير التساؤل: هل ما زالت الولايات المتحدة تؤمن فعلًا بالنظام الدولي القائم على القوانين والمواثيق، أم أنها تسعى لتقويضه لصالح نهج القوة والغلبة؟
عزلة أمريكية متنامية ..
الأمر الأكثر خطورة هو أن خطاب ترامب كشف عن عزلة سياسية متنامية لواشنطن. فمواقفها في قضايا عديدة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وحل الدولتين، لم تعد تجد دعمًا إلا من قلة محدودة، فيما تتسع الهوة بينها وبين الغالبية الساحقة من دول العالم التي تؤكد على الشرعية الدولية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. تجاهل ترامب لهذه القضية المركزية، ومحاولته تبرير سياسات الاحتلال الإسرائيلي الاستيطانية، لا يُسيء فقط للفلسطينيين، بل يُقوّض أيضًا مكانة الولايات المتحدة كوسيط أو طرف جدير بالثقة.
خطاب يُقزّم القيادة الأمريكية ..
لقد بدا الرئيس الأمريكي في خطابه وكأنه يختصر العالم في زاوية ضيقة، تقوم على مصالح آنية ضاغطة، متجاهلًا أن الأمم المتحدة ليست مجرد منبر خطابي، بل فضاء جامع للتعددية، وأن استهتاره بها يعني عمليًا إضعاف دورها في حفظ السلم والأمن الدوليين. وما زاد المشهد فجاجة هو أن لغة الخطاب نفسها لم تراعِ التقاليد الدبلوماسية ولا اللياقة السياسية، بما لا يليق بدولة كبرى تدّعي قيادة النظام الدولي.
جرس إنذار للنظام الدولي ..
إن العزلة التي تكشف عنها هذه اللغة لم تعد مقتصرة على الخصوم التقليديين للولايات المتحدة، بل باتت تشمل حلفاءها التاريخيين الذين باتوا يشعرون بالحرج والخذلان من مواقفها، خاصة عندما تصطدم هذه المواقف مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي. خطاب ترامب أمام الجمعية العامة هو جرس إنذار للعالم، لكنه أيضًا مرآة تكشف صورة باهتة عن قيادة أمريكية تبتعد عن روح المسؤولية الدولية، وتُقزم ذاتها أمام منبر كان يفترض أن يرفعها.
أزمة قيادة وثقة ..
ختامًا، إن ما جرى في نيويورك ليس مجرد خطاب عابر، بل هو حدث كاشف لأزمة عميقة: أزمة ثقة بالعالم، وأزمة تراجع في دور الولايات المتحدة، وأزمة خطيرة للقضية الفلسطينية التي تواجه ليس فقط الاحتلال، بل أيضًا الانحياز الأعمى للقوة العظمى الأولى.
وفي هذا السياق، فإن الرد الدولي لا يجب أن يقف عند حدود النقد، بل أن يُترجم إلى سياسات ومواقف جماعية تحفظ للمنظمة الدولية هيبتها، وللشعوب حقوقها، وللنظام العالمي هيبته.